جورج صبرا (2-2) : قصص إنسانية من الثورة السورية

يكمل جورج صبرا حكاياته قائلا: وهنا أذكر أن قَطَنا في شهر مايو أيار من العام 2011 خرجت من يد السلطة وأصبحت في يد الثوار، ولم يعد بها شرطة ولا مخفر ولا رجال الحزب ولا الجيش، وكان النظام يريد من أهلها آنذاك أن يرتكبوا حماقات حتى يدخل الجيش ويدكها على رؤوس من فيها، لكن الناس كان لديهم الوعي الكافي لإدارة .المدينة
جورج صبرا

بقلم أحمد منصور

يكمل جورج صبرا حكاياته قائلا: «وهنا أذكر أن قَطَنا في شهر مايو أيار من العام 2011 خرجت من يد السلطة وأصبحت في يد الثوار، ولم يعد بها شرطة ولا مخفر ولا رجال الحزب ولا الجيش، وكان النظام يريد من أهلها آنذاك أن يرتكبوا حماقات حتى يدخل الجيش ويدكها على رؤوس من فيها، لكن الناس كان لديهم الوعي الكافي لإدارة المدينة، وحينما قلت للشباب: نحن أصحاب ثورة ولغتنا هي لغة القرآن وليست لغة السب والشتائم لذا عليكم أن تنظفوا جدران المدينة من السباب والشتائم للعلويين، في اليوم التالي قام الشباب ونظفوا جدران المدينة من الشتائم».

لقد ظهر المعدن الأصيل لهذا الشعب من خلال هذه الثورة، فالتكافل والتراحم بين الناس في هذه الثورة لا حدود له

جورج صبرا

جورج صبرا

سألني جورج صبرا وهو يحكى قائلا: «هل تعلم يا أحمد ما الشيء الذي بهرني في هذه الثورة؟»، قلت له: «ما هو؟»، قال: «ما يقرب من أربعين عاما والأجيال تربى على فكر الطلائع، فكر واحد وتنظيم واحد هو حزب البعث، ورجل واحد يُقَدس هو حافظ الأسد، ورغم كل ذلك وجدنا أمامنا جيلاً مدهشاً يحملون أرواحهم على أكفهم ويخرجون لهدم الصنم الذي حاولوا أن يفرضوا عبادته على الشعب طيلة أربعين عاما. إنني لم أنسَ جارتي المسلمة، وكان لديها أربعة أولاد، وفي التظاهرات التي كانت في بداية الثورة سمعتها تقول لأولادها الأربعة وقد كانوا يريدون الخروج جميعا في تظاهرة واحدة: أرجوكم لا تخرجوا كلكم في تظاهرة واحدة، فلتخرجوا كل اثنين مع بعض حتى لا تموتوا أنتم الأربعة في يوم واحد»، أبكتني عظمة تلك المرأة التي كانت تعلم علم اليقين أن أولادها الأربعة سوف يموتون، لكنها أرادت أن يكون وقع المصيبة عليها خفيفا.

الثورة السورية

وهناك قصة أخرى رواها لي شاب يدعى محمد الحريري من درعا، قال لي إنه كان في العمل حينما خرجت أول تظاهرة ضد النظام في مدينتة، فاتصلت عليه أمه وقالت له: أين أنت؟ فقال لها: أنا في العمل، فردت عليه قائلة: أي عمل؟ عليك أن تعود فوراً، فكل إخوتك خرجوا في المظاهرة، وعليك أن تأتي لتلحق بهم وتشاركهم. ولعل الناس شاهدوا عشرات التظاهرات يخرج فيها الأطفال مع آبائهم وأمهاتهم، الكل خرج عاري الصدر أمام الدبابات والمدافع والطائرات، يطلب الحرية وسقوط هذا النظام الفاسد الذي جر الويلات على سوريا وعلي السوريين. لقد ظهر المعدن الأصيل لهذا الشعب من خلال هذه الثورة، فالتكافل والتراحم بين الناس في هذه الثورة لا حدود له.

وهنا أذكر أننا في بداية الثورة قابلني أحد رجال الدين المسيحيين وقال لي: المسيحيون خائفون، قلت له: ما الذي يزيل الخوف من نفوس المسيحيين؛ الالتحاق بالثورة والمجتمع والالتحام بالشعب أم الالتحاق بسلطة زائلة؟ علينا نحن المسيحيين أن نلتحق بالشعب والثورة.

المسلمون بنوا الكنيسة

وأذكر أنى حينما خرجت من السجن في 10 مايو أيار من العام 2011 بعدما اعتقلوني أول مرة، كان عيد الفصح في منتصف شهر نيسان أبريل، بعدها وجدت الخوري رتب حراسة من الشباب للكنيسة حتى يحميها من الاعتداء عليها، فذهبت وقلت له: تحميها ممن؟ إن المسلمين هم الذين بنوا هذه الكنيسة، وهذه حقيقة، فعند بناء كنيسة قطنا في العام 1998 ذهب وفد من الكنيسة إلى عوض عمورة، وهو صاحب واحدة من أكبر شركات الألومنيوم، حتى يشتروا ألومنيوم لأبواب وشبابيك الكنيسة، فكانت الفاتورة كبيرة، فسأل موظفو الشركة الوفد: هل هذه الكمية من الألومنيوم لمشروع سكني؟ فقالوا: لا إنها للكنيسة، فأقسم صاحب الشركة وكان مسلما ألا يتقاضى قرشا واحدا وأن يكون كل الألومنيوم إهداءً للكنيسة، أما المقاولون والبناءون فكانوا جميعا من المسلمين.

إن سوريا تعيش على التعدد والتسامح الديني منذ قرون طويلة، وأذكر أنى حينما خرجت من السجن في المرة الأخيرة وعدت إلى بيتي وجدت شبابا يقفون حول بيتي، فخرجت فسألتهم إن كانوا يريدون شيئا فقالوا: أستاذ جورج، نحن من شباب الثورة ومكلفون بحراسة بيتك على مدار الساعة، ونحن نتناوب في الحراسة دون أن تعرف، فقلت لهم: من الذي كلفكم بهذا؟ قالوا: نحن كلفنا أنفسنا ولم يكلفنا أحد»..

اندلاع الثورة فى سوريا

يواصل جورج صبرا حكاياته قائلا: خلال الفترة التى اعتُقلت فيها بعد اندلاع الثورة فى سوريا، كان السجن مليئا بكل فئات المجتمع السورى المتهمين بالمشاركة فى الثورة، وكان أغلبيتهم من عوام الناس، ولأننا لا نختلط فى الحياة بعوام الناس فإننا نجهل المعدن الثمين لهم، وقد فوجئت بالمستوى الأخلاقى والإنسانى والرجولى والشجاعة والمروءة لهؤلاء العوام من غير المتعلمين، وفوجئت بأخلاقهم الإنسانية حينما يجدون من يقودهم ويوجههم، كان عددنا فى العنبر ثلاثمائة وخمسين سجينا ولنا حمام واحد، ولك أن تتخيل أن هذا العدد من السجناء يستخدم حماما واحدا، كانوا يقفون فى طابور طويل ويسجلون أسماءهم حتى يحصلوا على دور لمجرد غسل وجوههم أو دخول الحمام، وكان العنبر يسع بضع عشرات من الناس فقط فكنا ملتصقين ببعضنا ولا نكاد نتحرك من شدة الزحام، وكنت مثلهم حينما أريد دخول الحمام أفاجأ بهم جميعا يقدموننى عليهم، ويصيح أحدهم: «طريق للأستاذ يا شباب»…

لقد جسدت هذه الثورة الوحدة الوطنية فى سوريا بشكل عميق وغير مسبوق

جورج صبرا

قصص إنسانية

كان الجميع بسماحة نفس ورضا وإيثار يسمحون لى بتجاوز الدور وكلهم يقدموننى باحترام وتقدير، وما زلت أذكر أننى فى حياتى لم أتصور أن يوجد ثلاثمائة وخمسون شخصا فى هذه المساحة الضيقة ويستخدمون حماما واحدا ومع ذلك يسع بعضهم بعضا.

أذكر أننى حينما كنت أحاكم فى سبتمبر 2011 بتهمة السعى لإنشاء إمارة إسلامية فى قطنا وأنا مسيحى من حزب شيوعى الأصل كانت عائلتى تحضر المحاكمة من بداية اليوم إلى نهايته، وقد لاحظوا وجود ثلاثة أشخاص يحضرون المحكمة بشكل دائم فى البداية اعتقدوا أنهم من الأمن التابع للنظام، فسألهم أخى بعد إحدى الجلسات: هل لكم أحد فى الداخل يحاكم؟ فقالوا له: نعم، الأستاذ جورج صبرا. فقال لهم: هل تعرفون الأستاذ جورج؟ قالوا: نعرفه، لكنه لا يعرفنا. فقال لهم: أنا أخوة. فأصروا أن يأخذوا أخى معهم إلى بيوتهم وكانوا من قرية قريبة اسمها كناكر، وكلها من المسلمين السنة، وأذكر أنى حينما خرجت من السجن جاءت نسوة كلهن محجبات ومعهن رجال كلهم ملتحون وأصروا على أن يأخذونى إلى بيوتهم، لقد جسدت هذه الثورة الوحدة الوطنية فى سوريا بشكل عميق وغير مسبوق، صحيح أن العلويين صنعوا مشكلة عميقة وكبيرة بينهم وبين المجتمع السورى لكن باقى طوائف الشعب، وتحديدا المسلمين والمسيحيين، تماسكوا فيمن بينهم بشكل غير مسبوق.

هدم المساجد والكنائس

أذكر أيضاً أن الكنائس كانت هدفا للقصف والهدم من قبل النظام العلوى كما كانت المساجد هدفا كذلك، وقد هدمت عشرات المساجد والكنائس التى تعكس الهوية التاريخية والثقافية والدينية والاجتماعية للمجتمع السورى منذ آلاف السنين، وكأن النظام لا يقتل الناس ويشردهم فقط ولكنه يمحو الهوية التاريخية والاجتماعية لسوريا وشعبها، وهذه من أكبر الجرائم فى التاريخ.

سألت جورج صبرا عن أطرف ما تعرض له خلال فترة وجوده فى السجن فقال: كان السجن مليئا بالشباب العوام، وقد اكتشفت المعدن الأصيل لهؤلاء الناس، وحينما علم أحدهم أن تهمتى هى إقامة إمارة إسلامية فى قطنا بينما أنا مسيحى كان فى حالة ذهول، وحينما اختلط بى فى السجن اقترب منى كثيرا وكان دائم التعجب لماذا أنا غير مسلم، وبعد مرور عشرين يوما على تعارفنا جاء ببساطة العوام وشهامتهم وطيبة قلوبهم وقال لى: أستاذ… أنا متعجب كيف صار لى معك عشرون يوما وما قدرت أدخلك الإسلام وتصير مسلما؟ فضحكت وقلت له: ستبقى أنت مسلما وأبقى أنا مسيحيا حتى تظل هذه الثورة وطنية قام بها الشعب كله.
بقيت علاقتنا طيبة ولا نكف عن الضحك، وحينما نادونى حتى يفرجوا عني بعد الضغوط الدولية والداخلية، جاءنى الشاب مسرعا وقال لى: معقول أستاذ جورج راح تخرج من السجن قبل ما ربنا يهديك وتقوم تصلى ركعتين؟ هذه هى نفوس السوريين الذين كان يعتقد الجميع أن الظلم الذى مورس عليهم لعقود قد قتل فيهم الشجاعة والرجولة والتضحية والقتال من أجل الحرية.

للمزيد

حكايات جورج صبرا (1-2) : العبور إلى الحرية

Total
0
Shares
السابق
جورج صبرا

حكايات جورج صبرا (1-2) : العبور إلى الحرية

التالي
أحمد جويلي

أحمد جويلي: أسباب أزمة الخبز فى مصر

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share