غيبوبة الدولة أم الرأس ؟

ملأت معظم صفحات الصحف المصرية طوال أيام شهر رمضان وعلي رأسها صحيفة الأهرام الرسمية بأعلانات تدعو المصريين للتبرع والكفالة لمشروعات شملت معظم الخدمات التى ينبغي أن تقوم بها الدولة ، بدءا من بناء المستشفيات ورعاية المرضي ، لاسيما مرضي الأمراض القاتلة  التى أخذت تفتك بالشعب المصري خلال العقود الأخيرة ، مثل أمراض الكلي والكبد والجهاز الهضمي والسرطان ، وغيرها ، وانتهاء برعاية وكفالة الأيتام ،  وكنت كغيري ممن يطالعون هذه الأعلانات المكثفة  كل صباح خلال أيام شهر رمضان نتساءل أين الدولة إذن ؟ لكن تصريحات لرئيس الوزراء المصري أحمد نظيف أعلن فيها لكل المصريين أن ” الحكومة ليست بابا وماما ” حملت تخليا مباشرا ومعلنا عن عامة الشعب ، جعلني أدرك أن الدولة فى الغيبوبة ،  فخلال أسابيع معدودة أصبحت حوادث القطارات شبه يومية ، كذلك حالات التسمم الجماعية سواء من مياه الشرب  التى اختلطت بمياه المجاري ومصارف المصانع الكيماوية لاسيما فى محافظات الدقهلية ودمياط التى بها أكبر كثافة سكانية ، أو ارتفاع معدلات الأصابة بالفشل الكلوي والكبدي وسرطانات الأطفال وغيرها ، فيما الحكومة متفرغة لصياغة القوانين التى تكفل للحواريين والمقربين وذوي النفود  احتكار سلع أساسية مثل الحديد والأسمنت أو توزيع أراضي الدولة علي مقاولي الحكومة بمبالغ رمزية ليأخذو القروض من البنوك ثم يبيعون ماأخذوه بالملاليم لعامة الشعب بالملايين ويقتسموا مع الكبار ، أو بقومون تعديل قوانين تتيح للصوص نهب المزيد من المال العام وثروات البلاد جهارا نهارا ، دون حسيب أو رقيب ، أو يسعون لتعديل الدستور لتمرير التوريث وكأن مصر من باقي متاع أبائهم ،  وفي الوقت الذي تنفق فيه المليارات علي وزارة الداخلية لتأمين النظام السياسي فإن الدور الأساسي للداخلية والمنوط به حفظ أمن الناس والنظام فى الشارع العام ، أصبح تاريخا لا وجود له ، فالشوارع وإشارات المرور تعج بالفوضي المتناهية ، وتعدي الناس على الدولة التى تعيش فى غيبوبة كبيرة ، بكل الأشكال بدءا من عدم الأهتمام بإشارات المرور أو النظر إلي ألوانها ، إلي إيقاف السيارات فى الممنوع إلي المرور فى الأتجاه المعاكس حتى أني رأيت بأم عيني سيارات تمشي فى الأتجاه المعاكس على كوبري 6 أكتوبر معرضة عشرات السيارات التى تسير في الأتجاه الصحيح للخطر ، كما أن عمليات السرقة في شوراع القاهرة الرئيسية لاسيما للسيارات التى تقف فى الشوارع أصبحت عادية للغاية أن تجد مرآة سيارتك جهارا نهارا قد سرقت أو أجزاء أخري منها حتى أن بعض اللصوص يسرقون عجلات السيارات كاملة ويتركون جسم السيارة علي بعض الحجارة أو حتى علي الأرض ، كذلك يسرقون أغطية شبكات المجاري وأسلاك الهاتف والكهرباء وكل ما يمكن أن يسرق ،  وقد وقعت لي حادثة طريفة حينما ذهبت إلي مدينة المنصورة لزيارة أهلي فى شهر رمضان وقضاء ليلة معهم ، وبيتي هناك يقع بين نادي الشرطة وبوابة جامعة المنصورة الرئيسية وقد ذكرت هذا  لأن هذ المنطقة يتواجد فيها بشكل دائم وعلي مدار الساعة عدد من رجال الشرطة لتنظيم المرور والأمن علاوة على نادي الشرطة نفسه ،  ومع ذلك ففوجئت للمرة الثانية خلال أشهر معدودة ،  بأن أجزاء من سيارتي قد سرقت جهارا نهارا رغم الزحام الذي يعج به الشارع ، ولأنها كانت المرة الثانية فقد قررت أن أبلغ مدير الأمن شخصيا بالأمر ، وقام أحد جيراني مشكورا بالأتصال بمكتب مدير الأمن حيث اهتم مدير مكتبه وطلب مني  أن أذهب  إلي قسم الشرطة لتقديم بلاغ ، رحب بي نائب المأمور وكان رجلا ودودا دمث الخلق ، لكنه فاجأني أن ماحدث هو أمر عادي ، وأن سيارته هو شخصيا سرقت منها أجزاء ثلاث مرات بعضها من  أمام قسم الشرطة ،ثم نادي ضابط المباحث وأوصاه ثم طلب مني ضباط المباحث بدعابة  ألا أفعل لهم فضيحة في قناة الجزيرة ، وأبلغوني أن مشكلة المنطقة التى سرقت منها سيارتي أنها لا يوجد بها عدد كاف من المخبرين فهم أربعة فقط في شارع مزدحم دائما يصل طوله إلي حوالي كيلو مترين ، قلت في نفسي  طبعا :  الكل متفرغ للأمن السياسي أما أمن الناس ” فالحكومة كما قال نظيف ليست بابا وماما ” ولهذا  قلت لضابط المباحث : كيف تسرق أجزاء من سيارتي مرتين من أمام نادي الشرطة ؟ ماذا عن باقي الشوارع ؟  هل معني ذلك أنكم بحاجة إلي من يحرسكم ؟ قال وهو يضحك : بصراحة نعم ، لكن اطمئن قلت : له بصراحة لامجال للأطمئنان . ولأن عالم أقسام الشرطة غريب بالنسبة لي فقد جلست أشاهد بعد  غرائب هذا العالم  ،  عشرات من المقبوض عليهم والمشتبه فيهم  في  أمور مختلفة مثل بيع ” البانجو ” الذي شاهدته لأول مرة في حياتي ، والسطو وغير ذلك من الجرائم الأخري ، فنسيت أقاربي الذين جئت لزيارتهم ، وقررت أن أقضي أكبر وقت فى القسم لمشاهدة هذا  العالم الذي لو فهمته فهمت أسباب انعدام الأمن فى البلاد ، في النهاية خرج معظم المشتبه فيهم بواسطة رجال جاؤوا لضمانتهم وتعهد بأنهم  لن يعودوا لما قاموا به بما فيهم باعة البانجو ، ابتسم لي ضابط المباحث وقال لي وهو يودعني وقال :  ” شفت اللي احنا عايشين فيه ، لكن اطمئن يا أحمد باشا كل شيء هيكون تمام ” ،  أشفقت فى النهاية علي ضباط المباحث ، لأني أدركت أن الخرق اتسع على الراقع ، وأن التسيب الأمني هو جزء من التسيب العام والغيبوبة التى تعيشها الدولة ، وأن الجسد لن يصح إلا حينما يصح الرأس ويخرج من الغيبوبة ، فمصر لا تستحق ما يحدث لها .

Total
0
Shares
السابق

مآسي الحرب على الإرهاب

التالي

فشل خيارمقاطعة حماس وعزل غزة

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share