متى تعود مصر إلى الديمقراطية الحقيقية ؟

حينما وقع انقلاب يوليو عام 1952 في مصر، كانت مصر واحدة من أعرق الأنظمة الديمقراطية في المنطقة، حيث كان الدستور الذي صدر في عام 1921 يكفل الحياة الكريمة للناس وعلى رأسها تداول السلطة بين الأحزاب القائمة وحق الشعب في اختيار من يحكمه، وإذا أخذنا في الاعتبار الحديث الذي روج بعد ذلك عن فساد الأحزاب والحياة السياسية فما حدث بعد ذلك على أيدي الأنظمة الديكتاتورية المتتابعة والذي بدأ بإلغاء الدستور ووضع دساتير تكون ألعوبة بيد الحاكم يعدل ويبدل فيها كما يشاء بما فيها المادة 76 المشؤومة التي تفصل الحق في الترشح لرئاسة الدولة على عدد محدود من الناس لا يكونون سوى امتداد للنظام القائم، يعتبر أسوأ بملايين المرات من الفساد الذي تحدث عنه الثوار.
عملية التضليل التي تتم للشعب المصري منذ قيام انقلاب يوليو وحتى الآن ووجود نسبة أمية واسعة تتعدى الخمسين في المائة من الشعب علاوة على الأمية السياسية العالية جعلت الشعب أسيرا لمقولات تتردد دون تمحيص عن العهد السابق للانقلاب وما وقع بعده من تعد على حقوق الناس، وجعل المنادين بالحياة الحرة الكريمة والتمحص والتفحص في حقيقة أحداث التاريخ كالمهرطقين الذين يكفرون بما جاء به الثوار مما أدى في النهاية إلى ما نراه الآن على أرصفة مجلس الشعب المصري وفي الشوارع، حيث خرجت كل فئات الشعب تقريبا بدءا من جامعي القمامة وحتى الأطباء ينادون بعد أكثر من خمسة عقود من الظلم والطبقية الجديدة، بحقهم في الحياة الحرة الكريمة بعدما أصبح دخل الطبيب لا يكفي لأن يأكل «عيش حاف» كما يقول المصريون.
لقد بلغ عدد الاضرابات في مصر من خلال تقرير رصده مايكل سلاكمان ونشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في 30 ابريل الماضي 1900 اضراب شارك فيه مليون وسبعمائة ألف عام وموظف من مختلف قطاعات الشعب.
وقد وصفت هذه الموجة من الاحتجاجات والاضطرابات بأنها «أكبر حركة اجتماعية تشهدها مصر خلال النصف قرن الأخير»، فقد أصبحت هناك حكومة عاجزة ونظام متكلس وشعب مستضعف يحكم بأكثر من مليون ونصف المليون جندي من قوات الأمن.
ولم يعد لدى من يحكمون خشية من أي تقارير سواء من التقارير الرسمية التي تصدر عن الجهاز المركزي للمحاسبات أو الرقابة الإدارية التي ترصد فساد النخبة الحاكمة، أو حتى التقارير الدولية التي تضع مصر في مقدمة الدول التي يمخر فيها الفساد.
ولعل الترتيبات التي تتم الآن من أجل تزوير الانتخابات القادمة والتي بدأت مبكرا بإلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات بعدما قام بعض القضاة الشرفاء بفضح بعض عمليات التزوير التي تمت في الانتخابات الماضية يؤكد أن مصر في طريقها الى مجهول لا يعلمه إلا الله.
وقفت متأملا هذه الحالة وأنا أرصد الإعداد للانتخابات البريطانية والتي أخذت شكلا جديدا هذه الدورة عبر المناظرات التليفزيونية التي عقدت بين زعماء الأحزاب الرئيسية الثلاثة في بريطانيا والتي أظهرت حجما من الشفافية وقدرة كل قائد حزب على أن يخرج بلاده مما تعانيه من أزمات.
وكان من أبرز ما حملته الديمقراطية البريطانية من خلال هذه المناظرات بروز شخصية قيادية جديدة يمكن ان تؤدي الى تركيبة جديدة في البرلمان البريطاني هي شخصية زعيم حزب الليبراليين الأحرار نيك كليغ الذي وضعته كثير من الاستطلاعات في المرتبة الأولى متقدما على زعيمي الحزبين التقليديين العريقين في بريطانيا العمال والمحافظين، ورغم أن رئيس الوزراء الحالي غوردون براون حل ثالثا في كثير من الاستطلاعات الا ان آخرين يرون أنه كان الأكثر وضوحا فيما يتعلق بحل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
مصر قبل انقلاب يوليو كان بها ديمقراطية أشبه ما تكون بالديمقراطية البريطانية، ورغم وجود احتلال مباشر من البريطانيين آنذاك إلا أن مساحة الحرية والديمقراطية كانت أفضل بمئات المرات مما تعيش فيه مصر الآن.
وبدلا من أن تواصل مصر المسيرة التي بدأت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر فإنها انتكست للوراء ولم يعد يصل الى سدة الحكم إلا المقربون من الحاكم أو الذين يعملون لمصلحته.
وألغيت كل أشكال الانتخابات الحرة بدءا من انتخاب شيخ الأزهر من قبل كبار العلماء في الأمة وليس في مصر وحدها والذي ألغاه عبدالناصر عام 1960 وحوله الى موظف لدى الحاكم يعين من قبله ويقال من قبله بدلا من أنه كان يعين من قبل العلماء وراتبه من أوقاف الأمة وليس من الدولة، إلى إلغاء الانتخابات في النقابات والجامعات وكافة أشكال الحياة الأخرى فلم يعد لدى العمال اختيار من يمثلهم من نقابتهم أو المهندسين أو غيرهم من النقابات التي تفرض عليها الحراسة وتمنع فيها الانتخابات حيث أصبح كل شيء بالتعيين وأصبحت المناصب مكافآت ولم يعد هناك أحد يحاسب أحدا.
ما هي مقدرة من يحكمون مصر الآن أن تقام بينهم مناظرة وبين أفضل اثنين ممن يطرحون أنفسهم كبدلاء لنرى من الذي له المقدرة على ان يخرج مصر مما فيه كما يفعل البريطانيون الذين كانت الديمقراطية المصرية لا تقل عراقة عنهم قبل خمسة عقود؟ ومتى يطالب الشعب المصري بحقه في اختيار من يحكمه اختيارا حرا نزيها لأنه إذا اختار من يحكمه فإنه تصبح لديه القدرة على أن يحاسبه وأن يعزله، ولكن من يحاسب هؤلاء الذين يحكمون ومن يستطيع أن يعزلهم؟.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

منهجية إسرائيل.. و عجز وتواطؤ الحكومات العربية

التالي

أزمة السلطة والبؤس الشعبي في العالم العربي

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share