قصة الحاج شعبان ( 1- 3)

الحج

لو روى لى أحد هذه القصة لأخذت منها وتركت، لكنى صاحب الرواية، ومن شاء أن يصدق أن هناك فى البشر أناساً بهذه الطبائع وهذه السجايا وهذه الفطرة وهذه البساطة فليصدق، ومن شاء أن يتعجب أو لا يصدق فأنا ألتمس له العذر.

أكرمنى الله بالحج إلى بيته العتيق عدة مرات بعد الفريضة، وأنا أتخذ الحج فرصة للخلوة والخروج من هموم العمل والأسفار والانقطاع عدة أيام عن دنيا الناس بكل ما فيها، ورغم وجود ملايين الناس فى الحج فإن لى طريقتى التى أقضى بها هذه الأيام وكأنى وحدى لا أرى أحداً من الناس، مصداقاً لقول الشاعر: «إنى لأفتح عينى حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحداً» فعادة ما أفعل كل شىء دون أن أرتبط بأحد أو أمشى فى مجموعات، وعادة ما أجيد التخفى حتى لا يزعجنى الناس ممن يتعرفون علىّ من خلال عملى التليفزيونى، لكنى فى هذه المرة صحبت من دون الناس هذا الرجل الذى سأروى قصته، وما زال وجهه الوضىء الملىء بالسمرة يصاحبنى كلما تذكرت تلك الأيام الجميلة.

لاحظت أكثر من مرة حينما نزلت لتناول الطعام أنه يجلس وحده مثلى، وكان يبدو من ملامحه السمراء وبنية جسمه الممتلئة أنه أحد هؤلاء الذين يكدون فى الحياة، أخذت طعامى ذات مرة وجلست قبالته لا أتكلم وإنما أتأمل سمرة وجهه وبساطته فى تناول الطعام، رفع رأسه نحوى ببساطة شديدة وقرب من النفس وطيبة قلب، وقال: أنا اسمى الحاج شعبان وانت اسمك إيه يا حاج؟ قلت له: اسمى أحمد؟ قال: «تشرفنا يا حاج أحمد؟ حضرتك مصرى برضه زينا»، ابتسمت وقلت له: نعم أنا من مصر وأنت من أين يا حاج شعبان؟، قال: «أنا من قرية تابعة لمحافظة الشرقية فى مصر وأعمل فى مزرعة فى قطر، والكفيل الله يكرمه مطلعنى أحج على حسابه زى كل المصريين اللى أنا شفتهم هو مين يقدر على مصاريف الحج دى؟ دى الناس شقيانة وغلابة ويدوبك اللى جاى على أد اللى رايح».. صمت قليلاً وأنا أستمع وأبتسم دون أن أعلق ثم أكمل حديثه قائلاً: «شكلك على باب الله مثلى يا حاج أحمد»، قلت له: «كلنا على باب الله يا حاج شعبان»، قال لى: «الحمد لله… رضا على كل حال.. أنا عندى 3 ولاد ربنا أكرمنى ورزقنى برزقهم وعلمتهم الكبير تخرج السنة دى من الجامعة وعايز أشوف له شغلانة فى قطر، والبنت هتتخرج السنة الجاية من كلية الهندسة والواد الصغير فى الثانوية، والدروس الخصوصية هلكانا يا حاج أحمد، لكن بقول لو الواد الكبير يلاقى شغلانة فى قطر أهو يشيل عنى شوية برضه، العيشة بقت صعبة قوى يا حاج أحمد، لكن الحمد لله على كل حال، غيرنا مش لاقى يسد احتياجاته لكن ربنا كرمنا كرم كبير قوى»>

أخذ الحاج شعبان يحكى وأنا أستمع دون أن أقاطعه، يحكى قصة إنسان مصرى بسيط مكافح يريد أن يرى فى أولاده ما لم يستطع أن يحققه لنفسه فى الحياة، استطرد فى حديثه وقال: «أنا تربيت يتيماً يا حاج أحمد، أمى ما كانش عندها غيرى وكانت – الله يرحمها – مكافحة ومثابرة فى الحياة، لم أدخل المدرسة، كنا غلابة وكانت أمى بتجرى على لقمة العيش بعد ما مات أبويا علشان تربينى، ما كانش معاها علشان تعلمنى ولسه فاكرها وهى بتشقى وأنا طفل صغير أركض وراءها ممسكاً بجلبابها وهى تدور فى الأسواق تبيع بعض الحاجات البسيطة حتى نتقوت من عائدها الذى كان يكفينا بالكاد»، ترقرقت دمعة فى عيون الحاج شعبان وهو يتذكر أمه، مسح دموعه ودعا لها بالرحمة الواسعة فأمَّنت على دعوته، ثم قال لى: الحاجة والدتك عايشة يا حاج أحمد؟ «نكمل غداً».

(2)

قلت له: لا.. . توفيت وأنا صغير وأنا أحج هذه المرة عنها لأنى سبق أن أديت الفريضة عن نفسى، قال: يا سلام.. إزاى بعد ما ماتت تحج عنها؟ هو ده ينفع برضه؟ «شرحت الأمر للحاج شعبان، وذكرت له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فقال لى وهو يتعجب: «يعنى ينفع أحج عن أمى الله يرحمها»، قلت له: «أكيد يا حاج شعبان بعد أن تؤدى الفريضة عن نفسك يجوز لك أن تحج عنها والقبول من عند الله» قال: والله فكرة، أدينى برضه أؤدى شيئاً من الدين الذى فى عنقى لها، صحيح أنا متعلمتش لكن كفاية إنها ربتنى وإنى علمت أولادى، لكن منين أجيب فلوس الحجة لأمى والكفيل هو الذى دفع لى مصاريف الحج بتاعى، إنت أكيد مثلى يا حاج أحمد الكفيل دفع لك فلوس الحج بتاعتك أنا شفت مصريين كتير فى الحملة فقلت ده الكفلاء دول ناس كويسين إنهم مطلعين كل المصريين دول يحجوا على حسابهم، إحنا ناس غلابة والتكاليف كبيرة، ابتسمت وصمت ولم أتكلم ثم قال لى: الكفيل بتاعك راجل طيب كدة زى الكفيل بتاعى يا حاج أحمد؟ أنا الكفيل بتاعى راجل طيب قوى؟ لكن سبحان الله معندوش غير ولد واحد جاله بعد سنين طويلة من عدم الخلفة، ماهو ربنا عادل يا حاج أحمد، فيه ناس ربنا أعطاها مال، وناس ربنا أعطاها صحة؟ وناس ربنا أعطاها أولاد، وناس أعطاها مال ولم يعطها صحة ولا أولاد، سبحانه الحمد لله على ما أعطانا>

ثم أكمل الحاج شعبان الحاج حديثه عن الكفيل فاكتشفت أن حياته كلها فى قطر تدور حول المزرعة التى يعمل فيها والتى تقع خارج الدوحة بحوالى ساعة بالسيارة والكفيل الذى يملك المزرعة وبعض أصدقائه الذين يترددون فى نهاية الأسبوع على المزرعة وغير ذلك لا يعمل الحاج شعبان شيئاً عن قطر أو الحياة فيها، حتى إنه لم يذهب للدوحة ولم يرها طوال سنوات عمله فى قطر سوى مرات محدودة للغاية فهو يعيش فى المزرعة ولا يرى إلا العاملين معه والكفيل وأصدقاءه حينما يأتون للسمر فى المزرعة، وأصبحنا أصدقاء دون أن يعلم عنى شيئا سوى أننى الحاج أحمد المصرى الذى يعمل فى قطر مثله واللى «على باب الله» مثله أيضاً، فكان وقت الصلاة حينما يرانى داخلا للمسجد ينادينى بأعلى صوته فى أى مكان يجلس فيه «ياحاج أحمد» فكان معظم من فى المسجد يلتفتون وأنا أدير وجهى خجلا ثم يشير لى أن أذهب لأجلس إلى جواره، وإذا كان المكان مزدحما يطلب بطيبة قلب ممن جواره أن يوسعوا للحاج أحمد مكاناً، كنت أتقبل منه كل شىء بسعادة وحب، وكان حديثه كله يدور فى إطار الكفيل والمرزعة والقرية التى ولد فيها ونشأ وترعرع فيها وعالمه الصغير المكون من زوجته وأولاده>

كم كان عالمه صغيراً لكنه كان سعيدا به، وكنت أقول فى نفسى: «يا إلهى لقد خلق الله كل إنسان لدور فى الحياة بدءا من هؤلاء البسطاء وحتى الذين يديرون شئون ملايين الناس وحمل كل إنسان أمانة ودورا فى الحياة وكل إنسان يعيش عالمه، بدءا من عالم النفس البسيطة وحتى عالم عشرات الملايين من البشر، وكل يأتى طائره فى عنقه يوم القيامة بما حمل من عالمه، وما بسط له من الرزق، وجدنى الحاج شعبان أجلس مع أحد الحجاج فقال لى: هو الحاج اللى كنت قاعد معاه ده مصرى؟ قلت له: ده القنصل المصرى فى الدوحة يا حاج شعبان، قال لى يعنى إيه قنصل؟قلت له: ألم تذهب للسفارة المصرية فى الدوحة يا حاج شعبان؟ قال لى: يعنى إيه سفارة؟ نكمل غداً.

(3)

نظرت إليه بابتسامة وهو ما زال مندهشاً ثم بدأت أشرح للحاج شعبان ما هى السفارة ومن هو القنصل؟ فتح فمه وقال ««ياه يا حاج أحمد ده القنصل ده حاجة كبيرة قوى أنا لازم أبوس القنصل» قلت له يا حاج شعبان اصبر هنروح نسلم عليه وأعرفك عليه الآن، قال لى: أبداً لازم أبوسه ده الحكومة بتحج معانا، أخذت الحاج شعبان وعرفته على القنصل المصرى فى الدوحة آنذاك زياد أبوغزالة وكان شاباً خدوماً ودوداً ذا أصل كريم، فأصر الحاج شعبان أن يقوم ويقبل القنصل وما زالت عندى صورة له وهو يضمه ويمسك رأسه بين يديه ويقبله، جلسنا مع الحاج زياد وجلس إلى جوارى الحاج شعبان ثم مال علىّ بعد ذلك وقال لى «إلا قول لى يا حاج أحمد هو القنصل ده جاى يحج على حساب الكفيل برضه زينا؟ غرقت فى الضحك.. ولم أتمكن من التوقف مع دهشة زياد ومن حوله ثم اضررت أن أقول له سبب الضحك فغرق فى الضحك هو الآخر، وسرعان ما اقترب من الحاج شعبان وأحبه مثلى، وقد طلبت من زياد أن يحاول مساعدة الحاج شعبان فى أمر ابنه إن كان هناك من يعرفه لمساعدته للمجىء والعمل فى قطر، وأعتقد أنه حاول بعد ذلك.

وفى يوم وجدت الحاج شعبان جاءنى وكنت أجلس فى العيادة مع طبيب الحملة الذى عرفته أيضاً على الحاج شعبان وأصبحا أصدقاء، جلس الحاج شعبان صامتاً قبالتى ووجهه غير باسم على غير عادته، وأطرق برأسه إلى الأرض، قلت له: خير يا حاج شعبان حد مزعلك؟ رفع رأسه وقال لى: «بصراحة إنت اللى مزعلنى يا حاج أحمد» قلت له: «خير يا حاج شعبان؟ أنا من يوم ما عرفتك مفيش بيننا إلا الخير؟» قال لى: «كنت فاكرك راجل غلبان على باب الله زى حالاتى، وقاعد أتكلم معاك وأحكى لك همومى، والآخر فى جماعة مصريين بيحجوا معانا قالوا لى: إنت تعرف أحمد منصور منين؟ إنت بلدياته؟ قلت لهم: أحمد منصور مين؟ قالوا لى اللى انت قاعد معاه ليل ونهار متعرفش اسمه؟ قلت لهم: قصدكم الحاج أحمد؟ هو اسمه أحمد منصور؟ ماله ده راجل طيب وعلى باب الله زى حالتنا» فضحكوا وقالوا: على باب الله إيه يا حاج شعبان؟ صحصح ده صحفى خطير ومذيع فى قناة الجزيرة إنت قلت له إيه؟ إوعى تكون قلت له حاجة كدة ولا كدة؟ قلت لهم: يا خبر ده أنا حكيت له كل حاجة وبعدين إيه قناة الجزيرة دى؟ قالوا لى بتاعة سياسة وأنا راجل غلبان وعلى باب الله ومليش فى السياسة، فأربكونى وأخافونى منك، وقلت إزاى الحاج أحمد الطيب ده يخبى عنى الموضوع ده ويخلينى أحكى له عن كل حاجة، ضحكت وقلت له: ما تخافش يا حاج شعبان سيبك من اللى الناس دول قالوه، إنت شفت منى حاجة غير إنى راجل على باب الله زى حالاتك؟، قال: أبداً يا حاج أحمد، قلت له: إنس كل الكلام اللى قالوه وتظل تتعامل معايا إنى الحاج أحمد اللى اتعرف عليك أول يوم، انفرجت أسارير الحاج شعبان، وقمت فعانقته حينما وجدت الدموع تترقرق فى عينيه، ولم تتوقف المواقف الطريفة بيننا طوال أيام الحج>

وحينما ذهبنا لنرمى الجمرات كنت أمشى حاملاً مظلتى وسمعت صوته يتحدث وكان يمشى مع مجموعة من الحجاج وكان قد حلق رأسه بالموس، وكانت الشمس حامية فجئت من خلفه وظللت رأسه بمظلتى، فقال دون أن يلتفت: «محدش يعمل الحركة دى غير الحاج أحمد» ثم التفت فرآنى فعانقنى وعانقته، ثم قال لى: إنت عارف يا حاج أحمد اللى مش هيقولى يا حاج شعبان بعد ما أرجع هزعل منه قوى قوى، ده أنا تعبت وشقيت ولازم يقولى لى يا حاج شعبان وإلا.. تذكرت الحاج شعبان وقصته بعد مرور عدة سنوات عليها وأنا أؤدى مناسك الحج هذا العام، فدعوت له ولمصر وشعبها الطيب أن يخرجها الله مما هى فيه ويفتح لها ولشعبها أبواب الخير والعزة.

Total
0
Shares
السابق

إدانة الـ«سى آى إيه» (2)

التالي

قصة الحاج شعبان 2

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share