سلسلة كتب أحمد منصور الصوتية..معركة الفلوجة ج6 : الخروج من حصار القناصة

يروي أحمد منصور في الكتاب الأول من سلسلة كتبه الصوتية .. معركة الفلوجة ج6 : الخروج من حصار القناصة (مرفق النص كاملاً) .. كواليس محاولات الخروج من حصار القوات الأمريكية والقناصة لنقل ذكرى مرور عام على احتلال العراق، وتفاصيل يوم الجمعة الدامي، ومقتل السيدة العجوز وأحفادها، وقصة طفلة الفلوجة، ومتى تعود يا أبي.
معركة الفلوجة ج 6

يروي أحمد منصور في الكتاب الأول من سلسلة كتبه الصوتية .. معركة الفلوجة ج6 : الخروج من حصار القناصة (مرفق النص كاملاً) .. كواليس أكبر وأهم معركة خاضتها القوات الأمريكية في تاريخها منذ حرب فيتنام، حينها كان على رأس فريق قناة الجزيرة الفضائية، الفريق التليفزيوني الوحيد الذي تمكن من اقتحام حصار الفلوجة وتغطية تفاصيل المعركة من الداخل، تتضمن الحلقة السادسة من الكتاب محاولات الخروج من حصار القوات الأمريكية والقناصة لنقل ذكرى مرور عام على احتلال العراق، وتفاصيل يوم الجمعة الدامي، ومقتل السيدة العجوز المسنة وأحفادها في قصف للسيارة الميكروباص التي كانوا يستقلونها، وقصة طفلة الفلوجة، ومتى تعود يا أبي، وتغطية الحرب من المستشفى.

الخروج من حصار القناصة ( النص كاملاً)

لم يتوقف القصف طوال الليل، وكانت تلك الليلة من أشد الليالي في الاشتباكات بين المقاومة والقوات الأمريكية، فالمقاومة حققت نجاحات كبيرة لاسيما في محاصرة القوات الأمريكية المحاصرة لمدينة الفلوجة، ونجحت في قطع الإمدادات عنها، ولم يعد أمام القوات الأمريكية سوى الطائرات المروحية لتمدها بالأغذية والاحتياجات.

في نفس الوقت كانت القوات الأمريكية لا تريد الظهور بمظهر المنهزم، لكن ما كشف عنه بول بريمر بعد ذلك وما سبق أن أشرت إليه يؤكد على أن القوات الأمريكية والإدارة بشكل عام كانت تعيش في حالة الهزيمة الكبرى، وكانت تتطلع إلى مجلس الحكم ورجاله حتى ينقذها من تلك الهزيمة التي حاقت بها، كما أنقذوا الاحتلال وحماه في أيامه الأولى.

ومما يؤكد أن مجلس الحكم ممثلة بالمشاركين فيه حماية للأمريكيين ومشروعهم في العراق الذي كان على وشك الانهيار في ذلك الوقت. ما قاله بول بريمر في صفحة أربعمائة وتسعة عشر من مذكراته حيث قال لا يمكننا الانتظار، فمجلس الحكم آخذ في التفكك، وهذا يؤكد أن مجلس الحكم ورجاله كانوا السند الرئيسية لسيطرة الاحتلال على الأمور في العراق آنذاك.

معركة الفلوجة ج6

انحصر تفكيري في تلك الليلة في ضرورة البحث عن مخرج من هذا الحصار الذي فرضته القوات الأمريكية علينا، فغدا هو الجمعة التاسع من أبريل نيسان ذكرى مرور عام على الاحتلال الأمريكي للعراق، وسوف تخصص قناة الجزيرة اليوم كاملا لتغطية الأحداث على الهواء من العراق وسيكون الزميل محمد كريشان من بغداد يساعده. عبد القادر عياض وسأكون أنا من الفلوجة وربما يكون هناك زملاء من المراسلين من أماكن أخرى لذا كان لا بد من البحث عن وسيلة للخروج من الحصار الذي تفرضه علينا القوات الأمريكية لا سيما القناصة.

محاولة الوصول إلى قلب المدينة

لا بد من الذهاب إذن إلى قلب المدينة غدا حتى تكون تغطيتنا من هناك. تحدثت مع حامد ليلا في الأمر، لكن الوضع المعقد الذي كنا فيه أظهر صعوبة في الأمر، فقلت في نفسي لننتظر إلى الصباح لعل الله يجعل لنا مع فلق الصبح فرجا ومخرجا.

كانت هذه الليلة ليلة مظلمة تبدو وكأنها لا نهار لها، لم يتوقف فيها القصف وأصوات الهجمات طوال الليل، ولم يطبق لي جفن مع كل ما بذلته من جهد لإيقاف عقلي عن التفكير في المستقبل المجهول الذي ينتظرنا، أو الماضي الذي عشنا أحداثه.

لكني عادة ما كنت أحصل في النهاية على غفوة توقظني بعدها أصوات القصف والانفجارات، أو المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر. بعد الصلاة جلست مع الزملاء وتحدثت معهم بوضوح وقلت لهم لا بد أن نخرج من تحت هذا الحصار الذي فرضته القوات الأمريكية على المنطقة، فلا زال هناك طريق وإن كان خطرا يمكننا الخروج منه.

لقد أصبنا بشبه شلل في تحركاتنا منذ وقوعنا تحت الحصار ظهر الأربعاء. ورغم نجاحنا في بث صور مميزة لا سيما وصول أول قافلة للإمدادات من المدينة واستمرار قصف الطائرات إف ستة عشر وغيرها.

كما أن استمرار عمل شبكة الهاتف في المدينة أفادنا. إلا أننا في النهاية لسنا صحيفة ولسنا وكالة أنباء ولسنا راديو، ولكننا محطة تليفزيون، والتلفزيون في النهاية صورة متحركة يشاهدها الناس، لذا لا بد أن نتواجد اليوم في قلب المدينة، وننقل من هناك صورة للعالم في الذكرى الأولى للاحتلال، حيث ستكون الجزيرة في بث مباشر طوال اليوم.

تحت نيران القناصة

كان حامد متوافقا معي دائما، لكني كنت أريد من الأخرين أن يكونوا على قناعة بما ناويين العزم على القيام به. نظرت إلى وجوههم فأعلن بعضهم موافقته لكن بقي أخرون صامتين بينما قال لي أحدهم نحن يا أحمد لا نضمن أن نخرج سالمين جميعا من تحت نيران القناصة.

كما أن جزءا من الأجهزة على سطح المنزل ومن الصعب إنزالها لأن القناصة يكشفون السطح ويطلقون النار على كل من يطل برأسه ويظهر من خلال النقاش كان لدي ولدى حامد إجابة على كل سؤال يطرحه، لكني في النهاية لا أستطيع إجبار أحد على خيار يمكن أن يكون الموت هو أحد نتائجه.

قلت لهم من يريد البقاء هنا فليبقى. لكني سأذهب إلى قلب المدينة ومعي حامد. فقالوا طالما عقدتم العزم.
فسوف نذهب جميعا قمت بتحيتهم وشددت من أزرهم، وقلت لهم إنني أقدر صعوبة الموقف، لكنه أصعب على هؤلاء الناس الذين جئنا من أجل نقل معاناتهم ، ولا بد أن نكون هناك معهم في قلب المدينة، كما أن الموت سيلحق بنا في الوقت المحدد لنا سواء بقينا هنا أو رحلنا.

لقد كان بين أبي عمر وبين الموت برهة حينما رصده القناص لكنه لم يطلق عليه الرصاص لأن أبا عمر لا يزال له عمر في قدر الله. كما أن الوضع هنا خطر للغاية أيضا إذا أصبح الرحيل هو الخيار الوحيد للجميع، وبدأنا نعد أنفسنا كي نغادر بيت الحديد ونخرج من تحت حصار القناصة.

أما الأجهزة التي كانت على سطح المنزل فقد نادى حامد ابن أخيه سامي عماد وزياد البطلين المجهولين، والذين كان من أفضل المساعدين لنا طوال أيام إقامتنا، فتسلقا من على حوائط البيت الخلفية في أوضاع خطرة للغاية، وزحفا على السطح حتى لا يراهما القناصة حتى وصل للأجهزة التي كانت ثقيلة وكانت تقع خلف غرفة السلم في الطابق الثاني وتم ربطها بالحبال، ثم قمنا بمخاطرة إنزالها بالحبال من على السطح، وكان سقوط أيا من هذه الأجهزة أو انكساره يعني أننا سندخل دوامة كبيرة، وسوف تنقطع علاقتنا بالعالم ولن نستطيع القيام بالتغطية.

أثناء إنزال الأجهزة، قام حامد بهمة كبيرة مع شقيقه أبي عماد بتدبير سيارتين بك أب لنقل معدات وأغراض إلى وسط المدينة، غير أن السيارات بقيت بعيدة على مسافة لا تقل عن خمسمائة متر من الجهة الخلفية للبيت، في وضع أكثر أمانا وبعدا عن نيران القناصة مختفية خلف البيوت.

وكان علينا أن نحمل أغراضنا ومعداتها، وبعضها كان صناديق ثقيلة لنذهب بها حيث تقف السيارات، وكان خوفنا بالغا عليها في ظل أننا كنا سنة تسلق بعض الأسوار والجدران لكثير من البيوت الخلفية حتى نتجنب نيران القناصة.

وقد ساعدت عائلة حامد كلها وبعض جيرانهم في نقل معداتنا، وأذكر أني حملت حقيبة يدي وأشياء أخرى لا أتذكرها في يدي الأخرى . وحمل أحد أبناء شقيق حامد زياد أبو عماد حقيبة أخرى وانطلقنا فرادى وفي مسافات متباعدة ولكن خلف بعضنا البعض، وكنا نحن رؤوسنا وأجسادنا في طريق خطر متعرج نقفز من بيت إلى بيت حتى نتجنب نيران القناصة، ونجحنا في النهاية والحمد لله في الخروج من الحصار دون أي خسائر.

كانت مشاعر الحرية تنساب إلى نفسي شيئا فشيئا وأنا أبتعد عن نيران القناصة، وما إن وصلنا إلى حيث كانت تقف السيارة تنتظرنا حتى رأيت ما هالني.

يوم الجمعة الدامي

كانت هناك جموع هائلة من الناس، رجال ونساء وأطفال وشيوخ تتحرك سيرا على الأقدام أو تضع أمتعتها على سيارات، وكان الجميع يحملون أعلاماً بيضاء ويسيرون نحو مخرج المدينة الجنوبية من جهة النعيمية. وكلما اقتربنا من الطريق العام الذي يربط المدينة النعيمية كانت أعداد الناس تزداد لكن ما إن وصلنا إلى طريق النعيمية حتى بدأ المنظر وكأنه يوم الحشر.

موجة نزوح جماعي

آلاف مؤلفة من الناس في موجة نزوح جماعي من المدينة هربا من الموت وجحيم الحصار، بعدما انتشرت إشاعة مفادها أن القوات الأمريكية تركت طريقا النعيمية مفتوحا لمن أراد الخروج من المدينة، لأنها ستقوم بعد ذلك بعملية اجتياح للمدينة، حيث سيدمروها على رؤوس من بقي فيها، فخرج عشرات الألاف من الناس بنسائهم وأطفالهم وعجائز هائمين بحثا عن مخرج وهربا من الموت القادم الذي سيجتاح المدينة.

لم تكن هناك سيارات تكفي لنقل عشرات الألاف من الناس في تلك الهجرة الجماعية من المدينة ، فقد كانت الأغلبية تمشي على أرجلها وترفع أعلاما بيضاء يحملها الكبار والصغار طلبا للأمان.

وكانت المقاومة كما أشرت أنفا قد دمرت مساء الثلاثاء السادس من أبريل نيسان مركز النعيمية الذي أقامته القوات الأمريكية التي فرت من الموقع مع أشلاء قتلاها وجرحاها، لكنها عادت بعد ذلك وبقي المخرج تحت سيطرتها الجوية والبرية، حيث كانت تقصف كل من يحاول استخدامه، لكن الإشاعة ملأت المدينة في ذلك اليوم.

أن القوات الأمريكية قد فتحت المخرج لمن أراد الخروج. طلبت من ليث وسيف أن ينزل من السيارة ويقوم بتصوير هذا المشهد الرهيب، لكن لأن المشهد لم يكن له نهاية، اقترح حامد أن نذهب إلى مقر المستشفى الميداني الذي يمثل نقطة التجمع الرئيسية التي يتحرك الناس من عندها ولم تكن بعيدة عنا.

حينما وصلنا إلى هناك شعرت بالفعل بأحوال أقرب ما تكون إلى أهوال يوم القيامة. الفزع والخوف والهلع والفوضى والصراخ والبكاء والنحيب. والناس تجري في كل اتجاه. نساء وأطفال وشيوخ جرحى. والمعوقين.
صراخ وبكاء.
عويل وضياع.
شعرت أني في متاهة كبيرة.

الفرار من الموت

أنزلنا أغراضنا من السيارة ووضعناها قرب حائط على جانب الطريق. وأخذت أصرخ على ليث وحسان. صور هذا يا ليث صور هذا يا حسان. ثم أجد ما هو أبشع منه. فأقول لها اترك هذا. دعه. تعال إلى هنا. صور هذا ، وإلى أن يأخذ وضعية التصوير بالكاميرا ويحاول تشغيلها أصرخ عليه مرة أخرى. لا. لا توقف. تعال هنا. هذا أبشع صور هذا. ثم أجد بعد ذلك ما هو مؤلم. وأنادي عليهما. وفجأة لا أجد أيا منهما. فأصرخ. كاميرا. كاميرا ائتوني بكاميرا. هنا سر بعض الناس الذين يقفون حولي يصرخون مثلي. كاميرا. كاميرا. أي كاميرا. ي كاميرا. أي كاميرا كنت في هذه اللحظات أريد ألف كاميرا لتصور أهوال هذه المشاهد المذهلة والمؤلمة والمخيفة والمرعبة.
إنها مشاهد الذين يبحثون عن فرار من الموت.
كان الجميع يبحث عن فرار من الموت. كان الجميع يريد أن يفر من الموت. هل شاهدتم قبل ذلك أناسا يفرون من الموت؟ المشهد من الصعب أن يوصف. إنهم جميعا كانوا يريدون الفرار من الموت الذي أصبح يخطف الناس في الفلوجة أصبح تخطف الناس في كل مكان في المدينة. يخطف الرضيع من على صدر أمه برصاصة قناص، والأب من بين أبنائه بقذيفة، والطفلة وسط إخوانه بشظية. والعائلة كلها أحيانا عدا رضيع أو عجوز بصاروخ.

إنه الموت. الموت قادم

يدوس فوق المنازل والبيوت. جاء به جورج بوش وجنوده إلى أهل الفلوجة الذين كانوا امنين مطمئنين. يعيشون مثل كثير من الناس. لكن الان كل شيء تغير في المدينة. الكل يريد أن يهرب من الموت. وحالة الذي يريد الهروب من الموت ترى وتحس ولكن من الصعب وصفها. كيف أصفها؟ كيف أصفها لكم. لقد كنت أشعر في تلك اللحظات أني لا أستطيع أن أجمع شتات نفسي.

طفلة الفلوجة

ثم صرخت فجأة حينما رأيتها رأيتها هائمة تبكي وتصرخ وتذهب في كل الاتجاهات. إنها طفلة كانت تائهة ضائعة بين الزحام، تصرخ بحثا عن أمها أو أي أحد من عائلتها التي ضاعت منها وسط الزحام في حالة الهرج والمرج والفوضى والضياع والهروب من الموت الذي كان يجتاح المدينة. لكني نظرت إليها وهي هائمة تصرخ وتبكي. لم أر وجهها وإنما رأيت وجه ابنتي الصغيرة ريهام التي كانت في مثل سنها، فصرخت وأنا أركض تجاهها أحاول أن أساعدها في الهروب من الموت آه يا صغيرتي آه وأي آه. صغيرتي ريهام. كان صوتها الملائكي يأتي دائما عبر الهاتف وأنا في هذا الحصار يفيض رقة وعذوبة وصفاء ونقاء ينساب في نفسي فيذهب عني الخوف والمعاناة والتعب والنصب والإرهاق والقلق والأرق ويملأ قلبي بالأمان والسلام.
كان صوتها يفيض علي بكل تلك المعاني رغم أصوات القصف والقنابل والانفجارات التي كانت تزلزل الأرض من حولي. كان صوتها يفعل فيما يفعله الرهان وهو رذاذ المطر الخفيف المنعش حينما ينزل على الناس في عيشهم وعلى الظهر فيفتح له. لكن لم تكن صغيرته ريهام تعلم طبيعة المكان الذي أنا فيه، لكن همس من حولها عني والتعامل معها من قبل بعضهم بي إشفاق جعلها تشعر أن أباها في خطر، وأنه يقوم بتغطية الحرب في الفلوجة، وكانت تجلس إلى جوار أمها تتابعني أحيانا عبر التليفزيون وهي تتساءل لماذا أنت هناك يا أبي؟ يقولون إنك في خطر.

ما معنى الخطر؟ إنني لا أعرف حجم الخطر الذي يتحدثون عنه، لكني أشعر بخوف كبير في داخلي عليك أبي، أريدك إلى جواري، اشتقت إليك. اشتقت إلى أن أغفو بين يديك، فتحمل مني على سريري كما تفعل دائما حينما تكون معنا، رغم أنك قليلا ما تكون معنا، وكلما سألتك ما تكف عن تلك الأسفار وتبقى معنا مثل باقي الآباء تعدني. ولكنك تخلف موعدك معي. وهأنذا أطرح عليك سؤالي المعتاد كلما سمعت صوتك. متى تعود يا أبي؟ كان هذا هو سؤالها الدائم لي حينما كنت أكلمها عبر الهاتف وأدى عيبها فأقول لها صوتك يضيء قلبي. ريهام صوتك يضيء قلبي. فتضحك باستحياء بينما أصوات الانفجارات تتواصل حولي ثم تعيد سؤالها متى تعود يا أبي؟ فكنت أقول لها قريبا يا صغيرتي. إن شاء الله سأعود. حينما يشعر الأطفال هنا في الفلوجة بشيء من الأمان مثلك. ورغم أنها لم تكن تعرف شيئا عن الفلوجة التي كنت أتحدث عنها إلا أنها كانت تنتظر ظهوري دائما على نشرات الأخبار وفي داخلها سؤال طرحته علي حينما عدت أبي لماذا كنت هناك في الحرب؟ ولماذا كنت تظهر دائما على غير الحال التي تعودت أن أراك عليها من خلال شاشة التليفزيون، فدائما كنت تظهر بلباس أنيق، وكنت أشارك أمي أحيانا في اختيار ربطة العنق لك.
لماذا لم تكن ترتدي تلك الملابس الأنيقة؟ وكنت دائما تبدو بوجه متعب وشعر غير مهندم وفي الشوارع أحيانا أو على أسطح البيوت أو بينها أحيانا أخرى؟ أين الأستوديو الأنيق الذي كنت تظهر منه دائما؟ لقد كنت أرى وجه الصغيرة ريهام في وجوه كل أطفال الفلوجة الخائفين المذعورين أو الجرحى والشهداء الذين كنت ألقاه كل يوم في المدينة، في الشوارع أو تحت أنقاض البيوت التي قصفتها الطائرات أو في المستشفيات يصرخون من الألم.
وكنت كلما رأيت طفلا خائفا أو مذعورا أو مصابا أو شهيدا، كان قلبي ينتفض فيطير عقلي وينسف كبدي من الألم، وأكاد أصرخ حتى أسمع الدنيا صراخ هؤلاء الصغار الذين حطمت صواريخ الطائرات والقنابل والقذائف الأمريكية حياتهم وأعمالهم ومستقبلهم وطفولته هم بل وإنسانيتهم.

لقد كان يوم الجمعة الدامي التاسع من أبريل نيسان عام ألفين وأربعة من أكثر الأيام دموية وألما في حياة أطفال الفلوجة.
كانت الصورة الأولى التي المتني هي صور الأطفال الصغار الذين خرجوا مع عائلاتهم في جموع كبيرة، يرفعون الأعلام البيضاء، يطلبون الأمن والأمان ليخرجوا من المدينة عبر صحراء النعيمية.

مقتل السيدة العجوز

ثم رأيت أشلاء بعضهم بعد ذلك، وقد جاءت بها سيارات الإسعاف إلى المستشفى بعدما قصفته الطائرات الأمريكية وهم يحاولون عبور الطريق المكشوفة سيرا على الأقدام، لكن الموت الذي هربوا منه عاجلهم في طريق الهروب.

أما الصورة الأكثر ألما والتي مزقت فقد كانت لعائلة تتكون من جدة عجوز مسنة ومعها زوجة ابنها وأحفادها، كانت تقف على جانب الطريق في الزحام تبحث عن سيارة تنقلها وأحفادها إلى خارج المدينة، لكن كل السيارات كانت ممتلئة والزحام كان على أشده ولا يقوى على الحصول على مكان في سيارة من تلك السيارات المكشوفة سواء سيارات النقل أو النصف نقل إلا الأقوياء من الناس، والمرأة كانت هرمة.

ناديت ليث أن يقوم بتصوير تلك العائلات، لكن ليث لم يقم بتصويرهم فحسب بل تعاطف معهم، وحينما جاءت سيارة نقل وتزاحم عليها الناس رق قلبه، فقام بمساعدة هذه العجوز وأحفادها حتى تركب على ظهر سيارة النقل مع عشرات من النساء والأطفال والعجائز الذين كانوا يفرون من الموت.

انطلقت السيارة مع عشرات السيارات الأخرى في اتجاه صحراء النعيمية للخروج من دائرة الموت في الفلوجة، لكن صورة هذه المرأة التي تترك كل يوم عاشته في الحياة أثرا على وجهها لم أنساه أبدا.

انشغلت بعد ذلك في الأهوال التي كانت تحيط به، لكني بعد ما يقرب من ساعتين رأيت سيارة ميكروباص سوداء لازلت أذكر لونها ، جاءت مسرعة إلى المستشفى، كنت وقتها على الهواء مباشرة مع قناة الجزيرة ولكن عبر الهاتف لأننا لم نكن قد تمكنا من تشغيل جهاز البث بعد، وكنت أصف للمشاهد عبر الهاتف بعضا مما
يدور حولنا من أهوال، وحينما جاءت هذه السيارة مسرعة أدركت أن فيها بعض المصابين. صرخت على ليث أن يأتي مسرعا لتصوير من فيها، وقمت أنا بفتح الباب الأوسط للسيارة الميكروباص بمجرد وقوفها حتى يقوم ليث بالتصوير قبل أن يزدحم الناس، وأنا أتوقع أنها كانت تحمل بعض الجرحى لكني صرخت.

صرخت من هول ما رأيت يا الله. رحمتك يا الله. لقد كانت جثتها جثة المرأة العجوز وأحفادها الصغار أشلاء متكدسة فوق بعضها داخل السيارة. إنها هي. إنها العجوز التي ساعدها ليث قبل ساعتين حتى تهرب من الموت مع أحفادها.
لكن الموت كان بانتظارهم هناك عند مخرج المدينة. فقد قصفت الطائرات الأمريكية عند مخرج المدينة. ولكن وجه واحدة من الأطفال كان مغطى بعضه بالدماء ممزوجا بالتراب. جعلني أصرخ وابكي كما أبكي الأبناء. أصدروا هذه السطور أو أقرأها ألما من هذه الصورة المؤلمة المرعبة التي أجدها دائما في مخيلتي وأبكي كلما تذكرتها تجمع الناس ومنه لما رأوه أخذوا يهتفون بعبارات سمعها الجميع عبر شاشة الجزيرة، فقد كنت على الهواء مباشرة من خلال الهاتف الذي كان في يده.

كان الجميع يهتفون لا إله إلا الله. أمريكا عدو الله. كان معي الزميل محمد كريشان على الهاتف الذي سمعته وأنا أشاهد شريط البث بعد ذلك وهو يقول لي هل تسمعني يا أحمد؟ لم أكن أسمع. ثم علق عليها بعد ذلك قائلا يبدو أن أحمد قد ترك الميكرفون للمتظاهرين من حوله. لقد كنت أبكي من هول ما رأيت وما كنت أريد أن يسمع أحد صوتي أو بكائي أو صراخه.

لم أحتمل المشهد الذي كان مؤلما لا سيما للأطفال وأشلاء أيهم الممزقة. وأتحدى أن يحتمل أي شخص لديه ذرة من الإنسانية أن يرى مثل ذلك المشهد ولا يبكي، بل إنني رأيت بعض الرجال ممن ساعدوا في إنزال الجثث من السيارة يصرخون من الألم . كنت أريد أن ألملم شتات نفسي سريعا حيث كنت على الهواء مباشرة، فقد كان المشهد مريعا بشعا ومخيفا ومؤلما، لاسيما وأن أغلب الضحايا كانوا من الأطفال، علاوة على العجوز التي لازلت أذكر شيئا من ملامح وجهها الذي تركت الأيام التي عاشتها خطوطها وأثارها عليه، حيث إننا ساعدناها حتى تهرب من الموت.

لكنها كانت في طريقها إليه هي وأحفادها دون أن ندري ودون أن تدري هي أيضا. وأنا أتعجب دائما كيف أن بعض المشاهد في حياتنا رغم أن عمرها الزمني لا يكون إلا ثوان معدودة، لكنها تبقى في مخيلتنا باقي العمر ولا تزول.

وكلما تراءت لنا تتراءى لنا بكل الظروف والملابسات والملامح المحيطة بها. في هذا اليوم الجمعة الدامي التاسع من أبريل نيسان عام ألفين وأربعة حينما رأيت عند المستشفى هذه الطفلة التي كانت تبكي وهي حائرة ضائعة تبحث عن أهلها وكان الناس كلهم ضائعين في تلك اللحظات.
رأيت صورة ابنتي ريهام في وجهها وأنا الغريب لا أدري ماذا أفعل لها؟ كانت تنادي على أمها ولا أدري أين كانت أمها في هذه المتاهة والضياع. وصرخت بأعلى صوتي على ليث وحسين كاميرا يا ليت كاميرا يا حسين.

كنت أتمنى أن يسمع أحدهم صوتي حتى يأتي ليصور ذهاب وجهها المذعور ولهفة لها وضياعها وبقائها. ولكن أي كاميرا؟ أمسكت الطفلة بيدي وأنا أحاول أن أهدأها وأذهب بعض الخوف عنها.

ثم قلت لأحد المسعفين العاملين في المستشفى. أرجو أن تأخذها وتساعدها للبحث عن أهلها. فأخذها واختفت عن عيني. لكنني شعرت أنها أخذت جانبا من نفسي حتى إني بقيت طوال اليوم أفكر فيها. يا ترى هل

وجدت أهلها؟ وهل لا زالت حية أم حصدها الموت مع من حصد في ذلك اليوم؟

المستشفى الميداني

أما المستشفى فكلما دخلت إليها أزعجتني مشاهد الأطفال الذين لم يكونوا يكفون عن الصراخ، وقد رأيت الأطباء يجرون لبعضهم العمليات الجراحية لإنقاذ حياتهم هكذا في الطرقات، لأن المستشفى كانت عبارة عن عيادة غير مجهزة على الإطلاق لمثل هذه الحالات.

كانت رائحة الجروح والدماء والموت تغطي المكان كله. وفي هذه الأجواء كثيرا ما كنت أبحث عن مكان لا يراني فيه أحد، لا أفعل شيئا فيه سوى أن أجهش بالبكاء من هول ما كنت أرى. ربما يذهب البكاء شيئا من الصراخ والألم الذي كان يعتصرني.

ثم أجفف دمعي الذي كان يأخذ معه بعض الضغوط والالام التي كانت تمزق كياني، ثم أحاول العودة لطبيعته حتى أمارس عملي، فأنا في النهاية يجب أن أكون رابط الجأش رغم كل ما أرى حتى أستطيع أن أواصل نقل مأسي أهل الفلوجة إلى العالم من جديد.

بقيت أعاني مع الأطفال طوال أيام في الفلوجة من أول لحظة إلى أخر لحظة، فقبل منتصف الليل في تلك الليلة وقبل أن أذهب لأرتاح قليلا مررت بالمستشفى فسألتهم إن كانت هناك حالة جديدة فقالوا لي هذه عائلة من ثلاثة أجيال جد وعم وطفل، فأبى اليوم أن ينتهي دون أن أعيش مع أطفال الفلوجة معاناتهم منذ أن أصبحت إلى أن أمسيت.
وفي اليوم التالي العاشر من أبريل نيسان وفي أخر زيارة لي إلى المستشفى كان هناك العديد من الشهداء والجرحى الجدد من الأطفال، وقد رأيت وجه طفلة شهيدة كانت مغطاة وينتظرون تكفلها حتى يذهبوا بها إلى المقبرة لذلك فإن حجم المعاناة النفسية التي كنت أعنيها من خلال أطفال الفلوجة كانت كبيرة، ويكفي أن تتخيل ولو للحظة واحدة أن هذا الطفل الذي يعاني هو ابنك أو ابنتك حتى تدرك كم كانت المحنة أليمة.

عودة إلى يوم الجمعة الدامي بعدما أخذ المسعف تلك الطفلة التي رأيت فيها وجه الصغيرة ريهام ليساعدها في البحث عن أهلها، شعرت أني لو تركت نفسي لما أرى وأشاهد فسوف أفقد السيطرة على نفسي ثم على ما حولي. ورغم أنني شاهدت مئات كثيرة في تغطية للحروب في أفغانستان والبوسنة والهرسك من قبل، إلا

أن ما شاهدته في الفلوجة كان له طابع خاص لا سيما في يوم الجمعة الدامي. وضعت رأسي بين يدي حتى أستطيع أن أهدي أم روعي وأجمع شتات نفسي وأقول فريق العمل بشكل أفضل لا سيما وأنه كان أمامي يوم طويل مليء بالعطاء وبحاجة إلى حسن التخطيط والإدارة حتى نستطيع أن ننقل هذا الواقع المؤلم إلى الناس.

قلت لليث وحسام أرجو أن تحاول تصوير كل ما تستطيعان من هذه المشاهد. أما أنا فسوف أذهب مع حامد للبحث عن مكان يمكن أن يقوم فيه سيف بوضع جهاز البث لأننا يجب أن نرسل هذه الصور فورا إلى الدوحة حتى يقوم ببثها إلى العالم. فجأة تلفت حولي فلم أجد حقيبة يدي ولا حقيبة ملابسي. وكان في حقيبة يد كل ما أحتاجه علاوة على جهاز الكمبيوتر والكاميرا الصغيرة، ولا أدري أين ذهبت في الزحام، كما أن أغراضنا التي كنا وضعناها إلى جوار أحد الحوائط لا أدري أين ذهبت هي الأخرى.

قلت لحامد الذي كان يحاول البحث مع المهندس سيف عن مكان لوضع جهاز البث. حامد لا أجد حقيبة ولا أدري أين ذهبت. لقد كانت في يدي.

لكني في تلك اللحظات التي عشنا فيها الأهوال الأولى للموقف شعرت أن تركيزي كان مشتتا إلى حد بعيد. ورغم أن هذا الأمر لم يستغرق سوى لحظات جمعت بعدها شتات نفسي، إلا أن هذه اللحظات نفسها هي التي ضاعت فيها الحقيبة.
وبينما كنت أتكلم مع حامد وجدت شخصا يرتدي ملابس المسعفين يقول لي. يا أحمد حينما وجدتك مشغولا بعملك أخذت حقيبتك وحفظها لك في هذا المبنى. قلت له أرجو أن تأتي مع لإحضارها فأنا أريد بعض الأغراض منها.

كان المبنى عبارة عن سينما يفصل بينها وبين المستشفى الميداني قطعة أرض فضاء. كان بها سيارة الإسعاف التي قصفتها القوات الأمريكية في حي نزال. وكان بها بعض المساعدات التي جاء بها الهلال الأحمر. لكني حينما دخلت إلى مقر الحزب الإسلامي
الذي كان عبارة عن سينما في السابق هالني ما رأيت.
لقد كان هناك عشرات الجرحى ممددين على أسرة موضوعة على المسرح وفي الأرضيات ورائحة الجروح والدماء تغلبها رائحة المواد المطهرة تزكم الأنوف، فالمكان غير صحي على الإطلاق، وقد كانوا يتغلبون على ذلك بالمواد المطهرة، كما أن المستشفى الميداني قد ضاق بالجرحى ولا يعرفون أين يذهبون بهم، فكان هذا المكان امتدادا للمستشفى الميداني.

تأكدت بعد ذلك من وجود حقيبة ثم تركتها هناك في أحد المكاتب، فأنا لا أستطيع حملها طوال الوقت، وأريد أن أتفرغ لوضع استراتيجية عمل للفريق في هذا اليوم العصيب. بدأت بعد ذلك أترك بعضا مما حولي وأرسم خريطة ذهنية وجغرافية للمكان، فقد كان هناك بعض الباصات وسيارات الإسعاف التي تمكنت من دخول المدينة أمس الخميس الثامن من إبريل نيسان، وأبلغني الدكتور رافع العيساوي مدير المستشفى أن كثيرا من الحالات الحرجة من الجرحى لاسيما إصابات الرأس قد تم نقلها إلى بغداد وحالات أخرى نقلت في الصباح الباكر، علاوة على حالة يتم تجهيزها الأن حتى يتم نقلها.

تدارست الأمور مع الزملاء واتفقنا أن أفضل مكان نعمل من خلاله هو تواجدنا هنا إلى جوار المستشفى، فالمستشفى يقع في قلب المدينة تقريبا، ويعتبر أهم مصدر للأخبار والمعلومات، علاوة على أننا بحاجة إلى مكان فيه كهرباء من أجل عمل جهاز البث مع احتمالات نقص البنزين أو تعطل مولد الكهرباء.
تكلمنا مع الدكتور رافع العيساوي أن نضع جهاز البث فوق المستشفى فلم يمانع، وبدأ سيف يعد الجهاز للعمل، بينما اجتمعت بزملائي في جانب من ساحة المكان، ووضعنا استراتيجية سريعة للعمل بعدما انضم إلينا عبد العظيم وحسين دلي.
كانت الاستراتيجية تقوم على أن عبد العظيم وحسين يتحركان حيث تتحرك سيارة الإسعاف التي تتوجه إلى مكان القصف، فيقومان بتصويرها وجمع معلومات من تلك الأماكن، وعمل تقارير طبية للبث على مدار اليوم عن الأحداث، فنكون بذلك على اطلاع وثيق بكل أماكن المدينة التي تتعرض للقصف، ونعد أكثر من تقرير يبث مع التغطية المباشرة.

أما حامد فيكون هو منسق فريق العمل بيننا وبين الدوحة، إلى جانب قيامه بجمع المعلومات من فريق العمل الذي يتعاون معنا في كل مناطق الأنبار، كما كنا نعمل في الأيام السابقة،
علاوة على الذين يتعاونون معنا من أطراف المدينة وبعض أماكن قضاء الفلوجة ونجحنا في ترتيب علاقات معهم خلال الأيام الماضية يقوم الجميع بعد ذلك بإمداد بكل هذه المعلومات التي أضيف إليها المعلومات التي كان علي جمعها من المستشفى سواء من الأطباء أو الجرحى أو الفرق الطبية المساعدة أو فرق الإغاثة التي التي جاءت للمستشفى، حيث كان علي أن أطوف على كل هؤلاء وأن أحصل على كل ما هو جديد وقد فرض علي هذا الأمر البقاء بين الأطباء والجرحى وجثث الشهداء التي كانت تأتي إلى المستشفى لجمع المعلومات منهم طوال الفترات التي لا أكون فيها على الهواء.
ثم أقوم تنسيق وترتيب كل هذه المعلومات للبث المباشر الذي كان من المفترض أن نشارك فيه بمجرد تركيب وتشغيل جهاز البث.

علاوة على ذلك، رتبت مع حامد أن نقوم باستضافة بعض وجهاء المدينة والمسؤولين عن العمل الإغاثي فيها إن استطعنا.
أما ليث وحسن فيقوما بعملهما في التصوير. أما أبو عمر السائق فقلت له أن يكون مساعدا لكل من المهندس سيف والمصورين ليث وحسان، وأبلغت الزملاء في غرفة الأخبار في الدوحة أن منسق الفريق هو حامد وعليهم أن يتصلوا به إذا احتاج شيئا وليس بأي شخص أخر حتى يكون العمل منظما. وتلقى الفريق أوامر العمل من جهة واحدة وانطلق كل منهم ليقوم بعمله انتظارا لإعداد جهاز البث.

دخلت إلى المستشفى لجمع المعلومات من الأطباء والجرحى وعائلات الشهداء، وانطلق عبد العظيم وحسين دلي لتصوير المناطق المنكوبة حيث تذهب سيارات الإسعاف إليها، وأخذ حامد يجمع معلوماته وسيف ورتب وجهاز
البث، لكن المشكلة توقعت لم يعمل، جهاز البث لم يعمل. اتصل الزملاء من الدوحة عدة مرات حتى لو شركة في التغطية المباشرة والخاصة التي أعدتها قناة الجزيرة في هذا اليوم التاسع من أبريل نيسان ألفين وأربعة والتي بدأت في التاسعة صباحا، لكن جهاز البث لم يكن يعمل.
كنت حريصا ألا يعمل السيف في أي جو من التوتر، فلم يكن الجهاز يرسل أي إشارة إلى الدوحة على الإطلاق، وبقي سيف ما يقرب من ثلاث ساعات نحاول تشغيل الجهاز دون جدوى. في هذه الأثناء، شاركت عدة مرات على الهاتف مع الزميل محمد كريشان الذي كان في بغداد ومع عبد القادر عياض أيضا الذي كان يشارك كريشان من بغداد، وأعتقد أن المشاركة الأولى كانت في نشرة التاسعة صباحا من الدوحة، وقد أعطيت في هذه المداخلات وصفا لأحوال الصباح في هذا اليوم، ورغم محاولة التعبير بالوصف عما كان يحدث
بالصوت إلا أن الصورة كانت أبلغ مئات المرات من أي تعبير صوتي وصفي. في النهاية قال سيف أحمد إن الجهاز لن يعمل من هنا، فالمكان منخفض للغاية، ويجب أن يكون الجهاز في مكان مرتفع وغير محاط بمبان مرتفعة. مثل هذا المبنى الذي كان أمام المستشفى كانت العيادة الشعبية التي كان يقع فيها المستشفى الميداني عبارة عن مبنى من طابق واحد وفي مكان منخفض، وكانت أمامه عمارة مكونة من ثلاثة طوابق كانت أعلى المباني في المنطقة، وكانت عبارة عن عيادة طبية خاصة.

فقال ليث وهو يشير إليها هذا هو أفضل مكان يعمل من فوقه جهاز البث. قلت له جيد ولكن أين صاحبها حتى نستأذن منه؟ اننا في النهاية يجب أن نصعد على سطحها لنضع عليه الأجهزة.
قلت لحامل الأجهزة أنت من أهل المدينة وعليك أن تبحث لنا عن صاحب هذه العمارة ولا تستأذن حتى يسمح لنا. أخذ حامد يسأل بعض الناس لكن الناس كانت ضائعة في ذلك اليوم كانت الناس ضائعة. لم يكن أحد يملك يقظة ذهنية حتى يرد على مثل هذا السؤال. في النهاية قلت له ما رأيك يا حامد أن ننقل الأجهزة إلى أعلى المبنى ثم نقوم بتشغيلها؟ وإذا جاء أحد واعترض أو طلب منا أن نغادر البناية نغادر.
لكني أعتقد أنك بعلاقتك مع أهل المنطقة يمكن أن تحل هذه الأمور كان وقت صلاة الجمعة قد اقترب، ورغم انتشار شائعة أن العلماء قد أفتوا بجواز عدم إقامة صلاة الجمعة في ظل هذه الأجواء، إلا أن كثيرا من المساجد عادت للصلاة.

إصلاح جهاز البث


قلت لحامد هي نذهب ومعنا أحد المصورين إلى أحد المساجد القريبة لنقوم بتصوير صلاة الجمعة وماذا سيقول الخطباء إلى أن يقوم سيف وباقي الشباب بمحاولة تركيب وتشغيل الجهاز على مبنى العيادة الطبية.
أدينا صلاة الجمعة في مسجد قريب، وأذكر أنه لم يكن هناك شيء ملفت في الخطبة، وأثناء خروجنا من المسجد في طريق عودتنا إلى المستشفى الميداني حيث طرقنا باقي الزملاء، جاء أن اتصالا من وضاح خنفر مدير قناة الجزيرة قال وضاح أين أنت يا أحمد؟
قلت له كنا نصلي الجمعة ونحن الأن في طريق عودتنا للزملاء. قال أسرع يا أحمد لقد تمكنوا من إصلاح جهاز البث وهو يعمل الأن ونحن في انتظار مشاركتك معنا على الهواء.
حمدت الله.
وتوجهنا غدا الى سطح مجمع العيادات الطبية الخاصة المواجه للمستشفى الشعبي، فوجدنا المهندس سيف قد تمكن من تشغيل الجهاز بالفعل وكانوا يقومون ببث الأشرطة والصور التي قمنا بتصويرها صباحا الى الدوحة والتي كانت تحوي كثيرا من المناظر المؤلمة التي سبق أن وصفتها.

Total
0
Shares
السابق
حسين الشافعي وهزيمة 5 يونيو

الشافعي: عبد الناصر وعامر مسؤولان عن هزيمة 1967

التالي
مسرحية التنحي

جمال عبد الناصر ومسرحية التنحي

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share